المشككون.......وعتاب النبي في القرآن
إعداد رشيدة مقيوش
لقد حاول المستشرقون البحث في القرآن والتنقيب عن الآيات التي ورد فيها عتاب النبي صلى الله عليه وسلم، ليتخذوها وسيلة للتخطيء وإظهار أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن على صواب، وأن أخلاقه لم تكن مثالية، وإلا لما ورد هذا العتاب في القرآن.
ولكنهم على عكس ذلك أثبتوا بادعائهم ما يلي:
* أن القرآن منزل من عند الله وصل إلينا كما أنزل، وأنه لم يحدث فيه تبديل ولا تغيير، ولو حدث ذلك لحذفت منه هذه الآيات التي تتضمن العتاب أو على الأقل حرفت.
* أثبتوا صدق أمانة الرسول صلى الله عليه وسلم في إبلاغ الرسالة، وإلا لأخفى هذه الآيات وما استطاع أحد من البشر أن يعرف إذا كانت أنزلت أم لا.
* كما أنهم أثبتوا أن القرآن لو كان كلام بشر ما كان يحتوي عتابا لرسول الله، فالبشر من عاداتهم لا يتقبلون النقد ويدعون الكمال، وما من منهج بشري يلوم فيه صاحبه نفسه أو يعاتبها، بل كل منهج وضعه بشر يحاول أن يوهم نفسه والناس بأنه هو الكمال المطلق.
أولا وقبل الرد على هؤلاء نبين لهم ما يلي:
ما معنى العتاب ؟ ولماذا العتاب ؟
فالعتاب أو العتب لون من اللوم على ما حدث، لأن القوانين التي بيني وبينك تمنع حدوثها. وهذا اللوم معناه وجود الود بينك وبين الشخص الذي تلومه. وعلى قدر الود يكون اللوم، فان كان اللوم عظيما كان هناك مكان للوم ولو على شيء صغير، وإذا كان الود بسيطا لا يكون اللوم إلا على أشياء كبيرة.
أما سبب العتاب فسنتطرق إليه من خلال الآيات التي آثارها المستشرقون، للطعن في أخلاق الرسول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، الذي برأه الله تعالى من فوق سبع سماوات قائلا (وانك لعلى خلق عظيم) [القلم 4 ]
قال الله تعالى:
" عبس وتولى أن جاءه الأعمى...." [ سورة عبس]
قال المستشرقون:
إن الله عاتب رسوله لخروجه عن الشرع، وتخليه عن دعوة الفقراء والضعفاء إلى الكبراء والزعماء، لأنه اهتم بالمظاهر المادية للناس في دعوته.
نرد عليهم فنقول :
إن هذه الحادثة نزلت في عبد الله بن أم مكتوم الأعمى الفقير؛ الذي أعرض عنه الرسول عليه الصلاة و السلام لانشغاله مع كبراء قريش، لعلهم يسلمون ويسلم معهم من يتبعهم، وهذا الفعل لم يقصد به النبي صلى الله عليه وسلم أي انحياز طبقي بين الغني أو الفقير، ولكنه ظن أن الغني سيكون مؤثرا في الدعوة إن أسلم أكثر من الأعمى الفقير، ونزلت الآية تعاتب الرسول عليه الصلاة و السلام عتابا رقيقا حتى أن الله تعالى لم يوجه الخطاب مباشرة لرسوله الكريم تلطفا ورحمة به ،وإنما جاء بصيغة المجهول ( عبس وتولى ) ثم بعدها جاء ضمير المخاطب ( ما يدريك لعله يزكى ) وهذا من حب الله تعالى لرسوله ولطفه به، لأنه يعلم أنه لم يعرض عن الأعمى تكبرا، وإنما حرصه الشديد على إسلام صناديد قريش وزعمائها ما هو إلا عزة للإسلام و المسلمين . لأن الرسول عليه أفضل الصلاة و أتم التسليم كان يدعو دائما قائلااللهم أعز الإسلام بأحد العمرين عمرو بن هشام أو عمر بن الخطاب ).
فعاتب الله تعالى رسوله قائلا يا محمد لما تترك السهل وتدخل الصعب، إن الله غني عن هؤلاء جميعا فلا تضيق على نفسك وتحملها المشقة لتهدي من يرفض قلبه الهداية ( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يومنوا بهذا الحديث أسفا )[الكهف6] وقوله تعالى (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) [فاطر 8].
فالعتاب هنا ليس عتاب توبيخ أ وتأنيب، وإنما هو عتاب رحمة ينم عن حب الله العظيم لرسوله الكريم.
ثم استمر المشككون في لغوهم قائلين:
إن محمدا أذنب ذنبا عظيما لهذا عاتبه ربه عتابا شديدا وأمره بالاستغفار منه من خلال الآيتين التاليتين:
الآية الأولى:
قال الله تعالى فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار ) [غافر55]
نرد عليهم فنقول :
الاستغفار هو طلب المغفرة وهو مرتبط بالتسبيح ،ويعتبر الاستغفار من الذنوب، والتسبيح بالعشي والإبكار، من مكملات العبادة والطاعة والقرب من الله تعالى. وطلب الرحمة والمغفرة من الله مطلوب من كل مؤمن مهما بلغت درجة إيمانه، ومكمل للعمل الصالح مهما كان هذا العمل الصالح مقبولا عند الله. والرسول عليه الصلاة والسلام كان يحرص على أن يؤدي ما يجب على أمته أن تقتدي به، حتى ولو كان هذا العمل قد أعفاه الله منه، والله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. ولكنه مع ذلك كان يستغفر الله في اليوم مائة مرة ويقوم الليل ويصلي حتى تتورم قدماه الشريفتان وتسأله عائشة رضي الله عنها في عجب: يا رسول الله ألم يغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيقول الرسول عليه أفضل الصلاة: أفلا أكون عبدا شكورا.
ومع المغفرة التي أعطاها الله له لا يريد إلا أن يعبد الله حق عبادته، ويأبى رسول الله أن يكون مقصرا في مقام الشكر .
إن هذه الآية الكريمة هي في مقام العبادة والقرب من الله، وليس في مقام اللوم كما يدعي المستشرقون الذين أخذوا جزءا فقط ليشوهوا به هذا الدين القيم.
أما الآية الثانية فهي:
قال الله تعالى إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان توابا ) [النصر]
فالتسبيح والاستغفار خضوع وذلة وخشوع لله، يعشقه القلب المؤمن لذلك ارتبطت هذه الآية بالفتح ولم ترتبط بالذنب، ولكن الله تعالى قال لرسوله (واستغفر لذنبك ) فماهر الذنب الذي اقترفه رسول الله حتى يستغفر له ؟ إن رسول الله أرسل رحمة للعالمين ويحاول الرسول عليه الصلاة والسلام بقدر طاقته وفوقها مع الكفار والمنافقين عسى الله أن يهديهم، ويعذب نفسه من أجل ذلك ويشقى ،والله تعالى يقول له ( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) [طه 1] يأتي المنافقون ويعتذرون لرسول الله عن الجهاد فيأذن لهم كل بعذره فيقول له الله تعالى ( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) [الأحزاب 43] .هنا الله تعالى يلوم رسوله على الإفراط في الرحمة، يموت الكفار الذين عذبوا رسول الله والذين حاربوا دينه ولكن الرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم يأتي فيصلي عليهم عسى الله يرحمهم. فيقول الله تعالى (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ) [الأحزاب 84] فهل صلاة النبي ذنب؟... إنما هي إفراط في الرحمة وإجهاد له. فيطلب المغفرة للذين رفضوا الهداية فيرد عليه الله تعالى (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) [الأحزاب 80]
إن تجاوز الرسول عليه السلام في الدعوة وفي طلب الرحمة وفي إتعاب وإجهاد نفسه هو تجاوز أمر من أمور الله، لهذا طلب الله تعالى من رسوله أن يستغفر من ذلك .
فيغالي المستشرقون في الادعاء والاتهام قائلين:
إن محمدا تجاوز الله في الدعوة ونطق عن هوى في نفسه للوصول بالعاصين للإيمان رغم أن الله تعالى لم يفرض عليه ذلك وهذا يتعارض مع قوله سبحانه (وما ينطق عن الهوى) [النجم 3]
نرد عليهم فنقول :
إن معنى " وما ينطق عن الهوى " انه مادام الله تعالى قد أرسل إلى رسوله الحق وبين له الطريق، فان رسول الله يتبع هذا الحق ولو كانت نفسه تهوى شيئاً آخر، فبعد نزول أمر الله ( ولاتصل على أحد منهم مات أبدا ) [الأحزاب 84] لم يقم الرسول أبدا بالصلاة على أحد من الكفار قد مات ولو كانت نفسه تهوى ذلك، فانه لا يمكن إلا أن يتبع هذا الأمر ولا يجعل النفس تميل مع هواها ضد ما أوحي إليه مهما كان، ومن هنا فان آية " تبت يدا أبي لهب " [المسد] نزلت في عمه صلى الله عليه وسلم وكان الرسول يطلب له الهداية، والوحي كان بينه وبين الله، ولكن عندما نزلت الآية تلاها الرسول رغم أنها نزلت في عمه وأنها تتوعده بالنار والعذاب الأليم، وهكذا في كل حكم من أحكام الدين لا يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم هوى النفس أبدا، إنما يتبع الحق وما أنزل، مهما اصطدم هذا الحق بقدرة وعنف مع هوى النفس.
قال الله تعالى:
(ولولا أن تبثناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا* إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا ) [الإسراء 75]
يفسرها بعض المستشرقين
أن رسول الله كاد يستجيب لدعوة الكفار الذين قالوا نعبد إلهك عاما وإلهنا عاما.
لكن معنى الآية كالتالي:
أنت يا محمد مثبت من السماء ومثبت بفطرتك السليمة، ولكن الذي يقترف ذنبا من عامة الناس له مقياس في الحساب، والذي اقترف ذنبا ممن نريه آياتنا يضاعف له العذاب، وهذا واضح في الآية الكريمة التي طلب فيها عيسى بن مريم من الله أن ينزل عليهم مائدة من السماء، لقد رأوا المائدة تنزل من السماء آية محسوسة وملموسة اختص المسيح والحواريين برؤيتها. ولذلك قال تعالى (فمن يكفر بعد منكم فاني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ) [المائدة 115] لأنهم رأوا ثم كفروا بعد رؤيتهم لآيات الله.
إن عتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن لم يكن عتاب لوم، ولكنه عتاب إسراف في الاجتهاد في الدعوة، فنهاه الله عنه، وقال له استغفر هذا الإسراف الذي لم يكن مطلوبا منك وقمت به.
استطراد جانبي:
لو عدنا إلى التاريخ الإسلامي ومنذ صدر الإسلام لوجدنا أن الله تعالى قد نصر هذا الدين بأند أعدائه وألد خصامه. فمهما حاول المستشرقون التشكيك في القرآن والسنة والنيل من شخص الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاقه الكريمة، فان الله تعالى يأبى إلا أن يظهر هذا الدين على أيديهم، ويمكنه في الأرض تمكينا ويتم نوره ولو كره الكافرون(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) [التوبة 33]
فالهجمة الشرسة التي عرفتها الأمة مؤخرا؛ والمتمثلة في اتهامات الدانمرك، وما اقترفه بابا الفاتيكان بنديكت 16 خلال مؤتمره بألمانيا في حق سيد البشرية، ما هو إلا إظهار وترسيخ لهذا الدين:
حيث تحرك العالم كله للدب والدفاع عن هذا الدين العظيم في شخص رسوله الكريم،
وكذلك تنبهت قلوب الغافلين من المسلمين، الذين فاءوا وأنابوا وتابوا إلى بارئهم، فأعادوا النظر في دينهم القويم وسيرة نبيهم العطرة ،
كما عرف الإسلام تزايد معتنقيه، والمهتمين بدراسته؛ لاكتشاف سر تمكينه ودوام حضارته قرونا من الزمن؛ في الوقت التي كانت أوربا تغط في سبات العصور الوسطى بين الجهل والاستبداد .
وفي الأخير ليس لنا سوى أن نقول لهؤلاء:
" رب ضارة نافعة " و " رب محنة منحة "
" وان كان للباطل جولة فان للحق صولة ، فالحق أبلج والباطل لجلج"
" ومهما طالت حلكة الليل البهيم فلابد من بزوغ نور الفجر المنير "
و أختم بقوله عز وجلو عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ). [البقرة 214]
لقراءة المزيد من الشبهات والرد عليها أضغط هنا
إعداد رشيدة مقيوش
لقد حاول المستشرقون البحث في القرآن والتنقيب عن الآيات التي ورد فيها عتاب النبي صلى الله عليه وسلم، ليتخذوها وسيلة للتخطيء وإظهار أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن على صواب، وأن أخلاقه لم تكن مثالية، وإلا لما ورد هذا العتاب في القرآن.
ولكنهم على عكس ذلك أثبتوا بادعائهم ما يلي:
* أن القرآن منزل من عند الله وصل إلينا كما أنزل، وأنه لم يحدث فيه تبديل ولا تغيير، ولو حدث ذلك لحذفت منه هذه الآيات التي تتضمن العتاب أو على الأقل حرفت.
* أثبتوا صدق أمانة الرسول صلى الله عليه وسلم في إبلاغ الرسالة، وإلا لأخفى هذه الآيات وما استطاع أحد من البشر أن يعرف إذا كانت أنزلت أم لا.
* كما أنهم أثبتوا أن القرآن لو كان كلام بشر ما كان يحتوي عتابا لرسول الله، فالبشر من عاداتهم لا يتقبلون النقد ويدعون الكمال، وما من منهج بشري يلوم فيه صاحبه نفسه أو يعاتبها، بل كل منهج وضعه بشر يحاول أن يوهم نفسه والناس بأنه هو الكمال المطلق.
أولا وقبل الرد على هؤلاء نبين لهم ما يلي:
ما معنى العتاب ؟ ولماذا العتاب ؟
فالعتاب أو العتب لون من اللوم على ما حدث، لأن القوانين التي بيني وبينك تمنع حدوثها. وهذا اللوم معناه وجود الود بينك وبين الشخص الذي تلومه. وعلى قدر الود يكون اللوم، فان كان اللوم عظيما كان هناك مكان للوم ولو على شيء صغير، وإذا كان الود بسيطا لا يكون اللوم إلا على أشياء كبيرة.
أما سبب العتاب فسنتطرق إليه من خلال الآيات التي آثارها المستشرقون، للطعن في أخلاق الرسول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، الذي برأه الله تعالى من فوق سبع سماوات قائلا (وانك لعلى خلق عظيم) [القلم 4 ]
قال الله تعالى:
" عبس وتولى أن جاءه الأعمى...." [ سورة عبس]
قال المستشرقون:
إن الله عاتب رسوله لخروجه عن الشرع، وتخليه عن دعوة الفقراء والضعفاء إلى الكبراء والزعماء، لأنه اهتم بالمظاهر المادية للناس في دعوته.
نرد عليهم فنقول :
إن هذه الحادثة نزلت في عبد الله بن أم مكتوم الأعمى الفقير؛ الذي أعرض عنه الرسول عليه الصلاة و السلام لانشغاله مع كبراء قريش، لعلهم يسلمون ويسلم معهم من يتبعهم، وهذا الفعل لم يقصد به النبي صلى الله عليه وسلم أي انحياز طبقي بين الغني أو الفقير، ولكنه ظن أن الغني سيكون مؤثرا في الدعوة إن أسلم أكثر من الأعمى الفقير، ونزلت الآية تعاتب الرسول عليه الصلاة و السلام عتابا رقيقا حتى أن الله تعالى لم يوجه الخطاب مباشرة لرسوله الكريم تلطفا ورحمة به ،وإنما جاء بصيغة المجهول ( عبس وتولى ) ثم بعدها جاء ضمير المخاطب ( ما يدريك لعله يزكى ) وهذا من حب الله تعالى لرسوله ولطفه به، لأنه يعلم أنه لم يعرض عن الأعمى تكبرا، وإنما حرصه الشديد على إسلام صناديد قريش وزعمائها ما هو إلا عزة للإسلام و المسلمين . لأن الرسول عليه أفضل الصلاة و أتم التسليم كان يدعو دائما قائلااللهم أعز الإسلام بأحد العمرين عمرو بن هشام أو عمر بن الخطاب ).
فعاتب الله تعالى رسوله قائلا يا محمد لما تترك السهل وتدخل الصعب، إن الله غني عن هؤلاء جميعا فلا تضيق على نفسك وتحملها المشقة لتهدي من يرفض قلبه الهداية ( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يومنوا بهذا الحديث أسفا )[الكهف6] وقوله تعالى (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) [فاطر 8].
فالعتاب هنا ليس عتاب توبيخ أ وتأنيب، وإنما هو عتاب رحمة ينم عن حب الله العظيم لرسوله الكريم.
ثم استمر المشككون في لغوهم قائلين:
إن محمدا أذنب ذنبا عظيما لهذا عاتبه ربه عتابا شديدا وأمره بالاستغفار منه من خلال الآيتين التاليتين:
الآية الأولى:
قال الله تعالى فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار ) [غافر55]
نرد عليهم فنقول :
الاستغفار هو طلب المغفرة وهو مرتبط بالتسبيح ،ويعتبر الاستغفار من الذنوب، والتسبيح بالعشي والإبكار، من مكملات العبادة والطاعة والقرب من الله تعالى. وطلب الرحمة والمغفرة من الله مطلوب من كل مؤمن مهما بلغت درجة إيمانه، ومكمل للعمل الصالح مهما كان هذا العمل الصالح مقبولا عند الله. والرسول عليه الصلاة والسلام كان يحرص على أن يؤدي ما يجب على أمته أن تقتدي به، حتى ولو كان هذا العمل قد أعفاه الله منه، والله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. ولكنه مع ذلك كان يستغفر الله في اليوم مائة مرة ويقوم الليل ويصلي حتى تتورم قدماه الشريفتان وتسأله عائشة رضي الله عنها في عجب: يا رسول الله ألم يغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيقول الرسول عليه أفضل الصلاة: أفلا أكون عبدا شكورا.
ومع المغفرة التي أعطاها الله له لا يريد إلا أن يعبد الله حق عبادته، ويأبى رسول الله أن يكون مقصرا في مقام الشكر .
إن هذه الآية الكريمة هي في مقام العبادة والقرب من الله، وليس في مقام اللوم كما يدعي المستشرقون الذين أخذوا جزءا فقط ليشوهوا به هذا الدين القيم.
أما الآية الثانية فهي:
قال الله تعالى إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان توابا ) [النصر]
فالتسبيح والاستغفار خضوع وذلة وخشوع لله، يعشقه القلب المؤمن لذلك ارتبطت هذه الآية بالفتح ولم ترتبط بالذنب، ولكن الله تعالى قال لرسوله (واستغفر لذنبك ) فماهر الذنب الذي اقترفه رسول الله حتى يستغفر له ؟ إن رسول الله أرسل رحمة للعالمين ويحاول الرسول عليه الصلاة والسلام بقدر طاقته وفوقها مع الكفار والمنافقين عسى الله أن يهديهم، ويعذب نفسه من أجل ذلك ويشقى ،والله تعالى يقول له ( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) [طه 1] يأتي المنافقون ويعتذرون لرسول الله عن الجهاد فيأذن لهم كل بعذره فيقول له الله تعالى ( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) [الأحزاب 43] .هنا الله تعالى يلوم رسوله على الإفراط في الرحمة، يموت الكفار الذين عذبوا رسول الله والذين حاربوا دينه ولكن الرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم يأتي فيصلي عليهم عسى الله يرحمهم. فيقول الله تعالى (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ) [الأحزاب 84] فهل صلاة النبي ذنب؟... إنما هي إفراط في الرحمة وإجهاد له. فيطلب المغفرة للذين رفضوا الهداية فيرد عليه الله تعالى (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) [الأحزاب 80]
إن تجاوز الرسول عليه السلام في الدعوة وفي طلب الرحمة وفي إتعاب وإجهاد نفسه هو تجاوز أمر من أمور الله، لهذا طلب الله تعالى من رسوله أن يستغفر من ذلك .
فيغالي المستشرقون في الادعاء والاتهام قائلين:
إن محمدا تجاوز الله في الدعوة ونطق عن هوى في نفسه للوصول بالعاصين للإيمان رغم أن الله تعالى لم يفرض عليه ذلك وهذا يتعارض مع قوله سبحانه (وما ينطق عن الهوى) [النجم 3]
نرد عليهم فنقول :
إن معنى " وما ينطق عن الهوى " انه مادام الله تعالى قد أرسل إلى رسوله الحق وبين له الطريق، فان رسول الله يتبع هذا الحق ولو كانت نفسه تهوى شيئاً آخر، فبعد نزول أمر الله ( ولاتصل على أحد منهم مات أبدا ) [الأحزاب 84] لم يقم الرسول أبدا بالصلاة على أحد من الكفار قد مات ولو كانت نفسه تهوى ذلك، فانه لا يمكن إلا أن يتبع هذا الأمر ولا يجعل النفس تميل مع هواها ضد ما أوحي إليه مهما كان، ومن هنا فان آية " تبت يدا أبي لهب " [المسد] نزلت في عمه صلى الله عليه وسلم وكان الرسول يطلب له الهداية، والوحي كان بينه وبين الله، ولكن عندما نزلت الآية تلاها الرسول رغم أنها نزلت في عمه وأنها تتوعده بالنار والعذاب الأليم، وهكذا في كل حكم من أحكام الدين لا يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم هوى النفس أبدا، إنما يتبع الحق وما أنزل، مهما اصطدم هذا الحق بقدرة وعنف مع هوى النفس.
قال الله تعالى:
(ولولا أن تبثناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا* إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا ) [الإسراء 75]
يفسرها بعض المستشرقين
أن رسول الله كاد يستجيب لدعوة الكفار الذين قالوا نعبد إلهك عاما وإلهنا عاما.
لكن معنى الآية كالتالي:
أنت يا محمد مثبت من السماء ومثبت بفطرتك السليمة، ولكن الذي يقترف ذنبا من عامة الناس له مقياس في الحساب، والذي اقترف ذنبا ممن نريه آياتنا يضاعف له العذاب، وهذا واضح في الآية الكريمة التي طلب فيها عيسى بن مريم من الله أن ينزل عليهم مائدة من السماء، لقد رأوا المائدة تنزل من السماء آية محسوسة وملموسة اختص المسيح والحواريين برؤيتها. ولذلك قال تعالى (فمن يكفر بعد منكم فاني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ) [المائدة 115] لأنهم رأوا ثم كفروا بعد رؤيتهم لآيات الله.
إن عتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن لم يكن عتاب لوم، ولكنه عتاب إسراف في الاجتهاد في الدعوة، فنهاه الله عنه، وقال له استغفر هذا الإسراف الذي لم يكن مطلوبا منك وقمت به.
استطراد جانبي:
لو عدنا إلى التاريخ الإسلامي ومنذ صدر الإسلام لوجدنا أن الله تعالى قد نصر هذا الدين بأند أعدائه وألد خصامه. فمهما حاول المستشرقون التشكيك في القرآن والسنة والنيل من شخص الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاقه الكريمة، فان الله تعالى يأبى إلا أن يظهر هذا الدين على أيديهم، ويمكنه في الأرض تمكينا ويتم نوره ولو كره الكافرون(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) [التوبة 33]
فالهجمة الشرسة التي عرفتها الأمة مؤخرا؛ والمتمثلة في اتهامات الدانمرك، وما اقترفه بابا الفاتيكان بنديكت 16 خلال مؤتمره بألمانيا في حق سيد البشرية، ما هو إلا إظهار وترسيخ لهذا الدين:
حيث تحرك العالم كله للدب والدفاع عن هذا الدين العظيم في شخص رسوله الكريم،
وكذلك تنبهت قلوب الغافلين من المسلمين، الذين فاءوا وأنابوا وتابوا إلى بارئهم، فأعادوا النظر في دينهم القويم وسيرة نبيهم العطرة ،
كما عرف الإسلام تزايد معتنقيه، والمهتمين بدراسته؛ لاكتشاف سر تمكينه ودوام حضارته قرونا من الزمن؛ في الوقت التي كانت أوربا تغط في سبات العصور الوسطى بين الجهل والاستبداد .
وفي الأخير ليس لنا سوى أن نقول لهؤلاء:
" رب ضارة نافعة " و " رب محنة منحة "
" وان كان للباطل جولة فان للحق صولة ، فالحق أبلج والباطل لجلج"
" ومهما طالت حلكة الليل البهيم فلابد من بزوغ نور الفجر المنير "
و أختم بقوله عز وجلو عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ). [البقرة 214]
لقراءة المزيد من الشبهات والرد عليها أضغط هنا